التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الانسان والاعلام



 من الحوادث القليلة أن أتسمّر على شاشة التلفزيون لساعات طوال لمشاهدة حدث معيّن حتى وإن كان ذلك الحدث مباراة في كرة القدم أو مشاهدة فيلم سينمائي طويل، غير أنني هذه المرة كسرت كل قواعد المشاهدة والتسمُّر أمام شاشة التلفزيون عندما تعلّق الأمر بإنقاذ طفل صغير في قرية نائية لا تظهر حتى على الخريطة، من قاع بئر مكث في قعرها أربعة أيام متواصلة ولم تستطع وسائل الإنقاذ الوصول إليه إلا في اليوم الأخير بعد أن فارق الحياة وارتفعت روحه الطاهرة إلى بارئها.


سألت نفسي: لماذا كسرت عاداتي القديمة وهجرت عاداتي الجديدة، أمن أجل عملية إنقاذ طفل صغير عالق في غياهب جب وهنالك العشرات إن لم يكن المئات من الأطفال في أرجاء العالم كله يئنون ويموتون تحت وطأة الحروب والتهميش والتعذيب وغيرها من وسائل الوحشية المُمارسة على أطفال العالم؟ وأنا أشاهد البث الحي المباشر لإنقاذ الطفل ريان شعرت بالأسى والتضامن معه ومع والديه وسالت دون إرادة مني بعض دمعات كنت أحبسها كي لا تسيل على خدي، وتساءلت هذه المرة وبصوت عال: لماذا كل هذا الاهتمام العربي والعالمي بحادثة الجب؟


تذكرت بعض المقالات التي قرأتها في وقت سابق عن الإنسان والإعلام ولكوني مُمارسا للإعلام منذ أمد طويل فقد قفز إلى ذهني مصطلح «أنسنة الإعلام» الذي كنت قبل فترات وجيرة قد حضرت بعض المنتديات التي تحدثت بإسهاب عنه.


الأنسنة مفهوم مشتق من الإنسان ذاته ويُقصد به تغليب الإنسانية على القضايا الأخرى عندما يتعلّق الأمر بالإنسان وإعلاء شأن الإنسانية في كافة الأمور الحياتية، وظهر هذا المصطلح في الكثير من العلوم منها المرتبطة بالاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد، غير أن ما يعنينا هنا هو الحديث عن الإنسان والإعلام وأنسنة الإعلام بجعل وسائل الإعلام تنحاز إلى الإنسان وقضاياه وجعل هذه القضايا هي محور الرسالة والخطاب الإعلامي الذي تقوم عليه سياسات العمل الإعلامي في كافة الوسائل التقليدية والحديثة.


أمثلة كثيرة يمكن سوقها على أنسنة الخطاب الإعلامي ومدى تعاطف الإعلامي مع الحالات الإنسانية الحاصلة في الحروب والكوارث الطبيعية والمآسي والانحياز للإنسان وقضاياه وحقوقه والتركيز على المشترك الإنساني وما يجمع الناس من ثقافات وعادات وقيم وأخلاق وأديان وإعلاء شأن قيم التسامح والمحبة والإخاء بين الشعوب الإنسانية قاطبة في كافة أرجاء العالم وإذكاء روح التعددية والاستماع إلى الرأي والرأي المعاكس وترسيخ مبادئ الحوار والتحاور مع الآخر القريب والبعيد وغيرها من الأمثلة الكثيرة التي يكون الإعلام فيها موجها ورائدا وصانعا لرسائل تبعث على الحب والتسامح أكثر منها تلك التي تبعث على البغض والكره.


المشهد الإعلامي وخصوصا العربي منه، يعج بالكثير من اللاإنسانية، خصوصا عند مقارنته بالإعلام الغربي، فالمتابع للمشهد الإعلامي العربي بشقيه التقليدي والحديث يلحظ كم الشقاق والفراق وإذكاء النعرات وإعلاء الطائفية والتحزبية وإبراز الخراب والدمار الحاصل في البلدان، في حين أن الإعلام الغربي يعج بالكثير من القصص الإنسانية التي تحكي عن إنجازات الإنسان وتفوّقه وتقدّمه ومعاناته وصراعاته وتأقلمه مع ظروف وأنواء الحياة ومناخاتها مع إعلاء شأن القصص الإنسانية وإبرازها حتى في الأخبار ذات الطبعة السياسية أو الاقتصادية.


من قاع الجب نستلهم العبر، ومن قصص الإنسانية نستلهم الدروس الإعلامية، ومن ردود الفعل نقرأ المشهد وخباياه، ومن الإعلام نتعلّم أن أنسنة الإنسان وقضاياه هي الأخبار الفائزة التي تحظى بالتعاطف والمشاهدة وتلهم الحب وتعزز مبادئ المساواة والمشاركة، فالإعلام -كما راقبته من منظوري الخاص- إما أن يكون أداة هدم وتخريب أو يكون أداة بناء وتشييد.

https://www.omandaily.om/أعمدة/na/نوافذ-الإنسان-والإعلام

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها ...

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج...

الأشجار تموت واقفة

تروي لنا الحكايات انه في جزر سليمان الواقعة في جنوب المحيط الهادي أنهم اذا أرادوا اقتطاع شجرة فان القبيلة تجتمع من حولها وتاخذ في لعنها وبعد ايام تموت الشجرة. هكذا وردت هذه العبارة على لسان الممثل الهندي عامر خان في فيلمه " الطفل المميز" أو بالهندية ان أصبت نطقه فهو " تاري زامن بار" Taare Zamen Par . ويتحدث الفيلم عن طفل صغير لديه صعوبات في التعلم ولا يستطيع تمييز الحروف من بعضها وليست لديه المقدرة على الفهم كباقي زملائه وأقرانه مما جلب عليه سوء معاملة من والده أولا ومن معلميه ثانيا، غير أن مدرسا للفنون كان قد اصيب بمثل هذا المرض من قبل شخص حالة هذا الطفل وبدأ في علاجه واقناع الجميع بأنه طفل مبدع مبتكر لا سيما في الرسم. حالة هذا الطفل وغيره من الاطفال تشخص اليوم على أنها نوع من مرض التوحد وتتمثل أعراضها في الانعزالية وعدم التواصل مع الاخرين واضطرابات في النوم والاكل والشرب وغيرها من الاعراض، وقد يصاب المرء بالعجب عندما يقرأ بأن عددا من المخترعين والمفكرين والادباء والفنانين التشكيلييين العالميين كانوا مصابين بهذا المرض من أمثال موتسارت وبيتهوفن ومايكل أنغل...