عبد القيوم، عامل من الجنسية الآسيوية قدم إلى هذه البلاد منذ ما يزيد عن العشر سنوات. صباحه روتيني جدا يبدأه بالوقوف أمام محل لصديق له يحمل ذات الجنسية يبيع مواد البناء والمواد الصحية. يتربع عبد القيوم على كرسي خشبي متهالك وبجانبه حقيبته المعدنية التي تحوي بداخلها كل مستلزمات السباكة والكهرباء وما يمت لهاتين المهنتين من أدوات وآلات بسيطة يسهل حملها ونقلها من مكان لآخر.
قصدته مرة لتعديل بعض السباكة في المنزل، كانت مهمة سهلة ولا تتطلب جهدا كبيرا، لكن – جهلي الشديد وانشغالي الكثير- جعلني ألجأ إليه لإصلاح ما أفسده انقطاع المياه المتكرر عن بيتي، أنهى عمله في أقل من عشر دقائق وأرجعته من حيث حملته، وكان ما دفعته نظير تلك الخدمة البسيطة هو عشرة ريالات.
أخذني الفضول لمعرفة تفاصيل حياته وكيف يقضي يومه ومستوى دخله اليومي والشهري، فأجاب بأنه يعمل منذ الصباح الباكر حتى بعد صلاة العشاء باستثناء راحة بسيطة في فترة الظهيرة، وهو مستمتع بعمله الذي كما قال لي بأنه يدر عليه دخلا جيدا، وإن لم يصرح برقم معين.
بحسبة بسيطة جدا لمستوى الدخل الشهري لعبد القيوم وجدت أن ما يتقاضاه من أجر نظير عمله – المطلوب جدا هذه الأيام- لا يقل عن الألف ريال إن لم يزد عليه، فقلت في نفسي إن هذا والله لأجر جيد يتمناه كثير من شباب وطني ممن وقفوا في طابور انتظار الوظيفة التي وإن جاءت فلن تأت إلا بنصف ما يجنيه عبد القيوم في شهره.
فتساءلت .. لماذا العزوف عن مهن كهذه؟
أرجعتني الذاكرة إلى مدرستي الابتدائية والإعدادية يوم أن كانت حصص النشاط المدرسي تدرس للطالب على أنها من المقررات اللا صفية التي يجب أن يدرسها ويستمتع بها وهي فرصة للخروج من جدران الصف إلى فسحة الحياة، يوم كنا في حصص الزراعة نزرع بعض المحاصيل كالثوم والبصل والخيار والطماطم ونسقيها ونعهدها بالماء والسماد ونهذبها ونقلمها ونعتني بها، وكانت الطالبات يتعلمن الحياكة والخياطة وبعض فنون الطبخ، والكثير من المهارات الحياتية التي كانت تعلمنا بعض الحرف والمهن التي تساعدنا على مواجهة الحياة.
اليوم، اختفت كثير من تلك الحصص والمهارات التي كان الطالب يتعلمها خارج الكتب، وما غرس في طالب اليوم أنه يجب عند تخرجه أن يكون طبيبا أو مهندسا أو طيارا أو أستاذا في الجامعة أو إعلامياً أو غيرها من المهن الاحترافية التي يأتي التخصص فيها من بعد سنتين أو أكثر في الجامعة أو الكلية.
من كان طموحه أقل من هذا فهو من الفاشلين الذين لن ترقى بهم أمتهم ولن يفتخر به أبواه ولن يلقى التقدير المناسب من المجتمع الذي يعيشه. ولتحقيق هذا الهدف المنشود قمنا بتسمين كليات التعليم الخاص التي انتشرت في كل مكان وأصبحت تقدم مقررات دراسية لا يطلبها سوق العمل، وقمنا بإقفال كثير من المعاهد التي تقدم الدراسات المهنية التي يحتاجها سوق العمل ويحتاجها الوطن لإكمال بنائه.
كنتيجة منطقية لكثير من اجراءات التعليم التي تحاول أن تتلمس الهدى، والثقافة المجتمعية التي تنظر للعمل بأنه يجب أن يكون في مهن ووظائف محددة، وبعض الحسابات التي ادخلتنا في دائرة دول الرفاه، كل ذلك ساهم في ارتفاع أرقام العمالة الوافدة إلينا لخدمتنا لتصل إلى ما يقارب النصف من عددنا (44.2%) وأن يزيد عدد الذكور الوافدين (حوالي مليون وأربعمائة ألف) عن عدد الذكور العمانيين (حوالي مليون ومائة ألف) وأن تكثر نسبة الباحثين عن عمل بين العمانيين وأن يجني عبد القيوم ورفاقه القادمون إلينا مبالغ شهرية تصل إلى أكثر من الألف ريال، وأن نصل إلى مرحلة نستجدي فيها الوافد لتقديم خدمة إلينا أو أن نطلبه كي يقوم بتوظيف أبنائنا.
http://2015.omandaily.om/?p=109187
http://2015.omandaily.om/?p=109187
تعليقات