يقف خلف مكتبه المحصن بأبواب زجاجية تمكنه من رؤية الطابور الذي وقف بانتظاره طمعا وطلبا لاستثناء (منه)، فكلمته كفيلة بأن يتم الافراج عن طلبك وموضوعك إن كانت إيجابا أو تكون سببا لبقائك في ضيافته ليوم أو يومين آخرين. لا يكلف في كثير من الأحيان رفع عينيه الى من يكلمه، فهو مهتم بالورقة أكثر من صاحبها، لا سيما وأن الكثير من الوجوه متشابهة ومتكررة، فهو يهتم فقط بتوزيع الاستثناءات وفق ما يشاء هو وبأمر منه.
مشهد لا استطيع وصفه بأقل من كلمة " درامي" فأنا وسط ذلك الطابور الطويل الذي ينتظر استثناء (منه) وكلي أمل ورجاء أن لا أعود الى ذلك المكان مرة أخرى وأن لا أحتاج الى تكبد مشقة الترحال الطويل الى تلك الجهة ولا إلى انتظار الطابور الممل ليأتي دورك أولا في استقبال معاملتك ومن ثم طابور آخر لكي تتاح لك فرصة شرح ظرفك له يمكن بعدها أن تحصل على استثنائه إن رقت له ورق هو لحالك وشكواك وأنينك.
مشهد لا يمكن أن تراه إلا هنا معنا في بلادنا وما جاورها من البلاد التي ما زالت تعيش الى اليوم على كلمة " قول تمً" لإنهاء الكثير من المعاملات وحل الخلافات والتوسط في كثير من الامور والتوصل الى تسوية للكثير من المسائل العالقة وغير العالقة بين الطرفين.
مشهد شعب لا يزال يطمح أن يحل المسؤول أو الموظف الأعلى موضوعه بكلمة فصل بينه وبين الآخر، أن يجد له استثناء أو مخرجا أو طريقا آخر يسلكه غير طريق القانون الذي صار يئن ويشتكي من كثرة ما استثني وتجوهل ولم يعمل به وصار مركونا في أدراج كثير ممن ملك قرارا لأنه صار هو القانون المتحرك الذي لا يحتاج الى قانون وضعه انسان بشري من قبله.
أحد خبراء الموارد البشرية فسر حالة المجتمع هذه وإدمانه على الاستثناءات في كل صغيرة وكبيرة ابتداء من طالب المدرسة وحتى كبير المستثمرين بأنها نابعة من ثقافة جيل عاش وتربى عليها مجتمعنا القبلي ولا يمكن التخلص منها بسهولة فهي متغلغلة في جذور وأعماق كل منا. تعودنا أن لا ننجز معاملة من أول زيارة لأي جهة وإن حصل ذلك فتلك الجهة قد ولجت الى عالم غير عالمنا الذي نحياه، واستخدمت تقنيات حديثة لا يمكن أن نراها الا في روايات الخيال العلمي أو في السينما، وهذه الجهة تستحق وبكل جدارة أن تحصل على كل جوائز العالم التقني والموارد البشرية وأن تدخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية لأنها قلصت أرقام زيارتنا لها.
ترى لماذا يصر هو وغيره على لعب هذه الادوار؟ ولماذا لا تزال تلك الكلمة السحرية ( قول تمً) لها وقع كبير في مؤسساتنا الحكومية وما شابهها؟ ولماذا نحن أنفسنا لا نقبل بما يقوله لنا موظف بسيط ونلجأ لمن هو أعلى منه فالأعلى فالأكثر علوا لتمرير موضوعاتنا؟ ولماذا بتنا لا نحترم قانونا ودستورا سن لتسيير أمور حياتنا وتنظيمها؟ ولماذا يتقاطر الناس على مكاتب الآخرين وينتظرونهم أمام الأبواب والنوافذ والسيارات ويترصدون لهم في الشوارع والأماكن العامة طمعا في لفتة منه وأن يمن عليه باستثناء كي يغرقه الآخر بسيل من المديح والدعاء له ولأسرته وقبيلته وعشيرته وكل من يمت له بصلة؟ ولماذا بتنا نتفاخر بأن موضوعاتنا لم تمر بطريقة اعتيادية وإنما هي باستثناء خاص جدا (منه)، فهي لا تشبه باقي موضوعات خلق الله وإنما جاءت بعد معاناة طويلة وشرح للظروف وكذب وتدليس وحصول على شهادات يعلم الله مصدرها؟ ولماذا لا يمر موضوع أحدهم على كل تلك الاستثناءات التي تمر بها البشرية وتحصل على كل ما ترغب فيه بكلمة سحرية هاتفية قال فيها صاحبها لمحدثه " قول تمً".
جاء دوري الآن لشرح ظرفي وحاجتي لاستثنائه، لم يرفع طرفه، نظر في ورقتي وأجاب: ما يصير، لازم ترجع باكر. حتى لو استثنيتك أنا ..ما راح تخلص اليوم.
أنهى كلامه وأشار لمن خلفي بالتقدم. نسيت في تلك اللحظة أن أقول له " قول تمً " علها تكون شفيعا لي، ولكنني رجعت إلى نفسي لأذكر نفسي بأنني ما زلت لا أعرف أحدا في تلك الجهة التي قصدتها.
تعليقات