التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قص و لصق


باتت حياتنا يتحكم فيها مبدأ القص واللصق، طريقة سهلة للنشر، لا داعي لبذل الكثير من الجهد في التدقيق في المعنى أو ما يحمله من مضمون أو ما يمكن أن يجلبه لك أو للمجتمع من أضرار وأخطار، فقط عليك باتباع هذا المبدأ قص من مكان ثم اللصق في مكان آخر، واحذر قبل هذا وذاك أن يسبقك أحد الى ذلك.
مما سهل على هذا المبدأ تغلغله في أوصال المجتمع وأفراده هو سهولة الولوج الى وسائل التواصل الحديث بدءا من الجهاز اللوحي وانتهاء بجهاز صغير لا يتعدى حجمه قبضة اليد، الكل صار يقص ثم يلصق، يجاري سرعة الحياة بسرعة هي أقل ما توصف بأنها سرعة جنونية في اتخاذ قرار ليس بحاجة الى تفكير سوى بضع ثوان ويبدأ الخبر في الانتشار وتسري الشائعة في أوصال المجتمع، الكل يتناقل مع ذلك والكل يقصه ويلصقه بدون التأكد والتدقق من صحة ما ينشر ويبث.
أخبرني صديق بأن صديقا له حكم عليه بعدد من الاشهر سجنا بسبب أنه قام بقص ولصق رسالة عابرة وصلت اليه من شخص حولها عن شخص آخر عن غيره عن غيره، حتى أنه لا يعرف لماذا اتهم هو بالذات في تلك القضية وهو المسكين الذي لا يدري شيئا عما قصه وألصقه، تهمته هي أنه ساهم بانتشار اشاعة جلبت عليه وعلى المجتمع الذي هو فيه كثير من القيل والقال وبعض الشؤوم.


كلنا مجمع على حرب الاشاعة والقضاء عليها، ولكننا نمارس فعل هذه الاشاعة كل ساعة من حواسيبنا وهواتفنا المحمولة. قد ندري وقد لا ندري بأننا في كثير من الاحيان نسهم في تدمير القيم والاخلاق والمعتقدات والقيم والكثير من أصول الدين الحنيف بسبب تسابقنا في نقل كل ما تصل اليه أيدينا من غث وسمين صالح وفاسد جيد وردىء، حتى من قبل أن نكمل قراءة ما نقص.
ليس لدينا الوقت لقراءة كل ما يرسل الينا، ولكن لدينا السرعة في تحويل ما يرسل الينا، اعتقادا منا بأن ما نقوم به قد يعود على الآخرين بالنفع والفائدة.
مرة سمعت د. طارق الحبيب يتحدث عما يحدث من واقع عربي وخليجي على ساحات مواقع التواصل الاجتماعي من نشر للاشاعات بدون التوقف عند ما يبث أو التحقق منه، فقال: بأن ما يحدث هو نتيجة لكبت داخلي عايشته هذه الشعوب من أنها لم تكن لتستطيع التعبير عما في دواخلها من آراء، وعندما وجدت الفرصة مواتية لها من خلال التقنيات الحديثة ومواقع التواصل لم تعرف كيف تستخدمها، فأساء هؤلا الناس استخدام هذه الالة، ناصحا بقوله، دعوهم الآن حتى يصلوا الى مرحلة التشبع ومن ثم سوف يصفو الجو ويزيل القيح الذي كان فاسدا داخل الجسم.
قد يكون كلام الدكتور الحبيب صحيحا، ولكننا في هذا الوقت نحن بأشد الحاجة الى أن ندقق فيما نقص ونلصق من كلمات لاننا إن ساهمنا اليوم في نقل اشاعة عن شخص ما ربما يأتي يوم غيره ينقل عنا آخرون ما يسيئنا وما لا نرغب في أن ننسبه الى أنفسنا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة على ورق

      تختزن ذاكرتي بعض الصور القديمة عن مجلة أطفال كنت اشتريها كلما سنحت لي فرصة زيارة مدينة أكبر من قريتي، لم ترسخ في ذاكرتي قصص تلك المجلة ولا رسوماتها، فما رسخ وتسرب الى قاع عقلي هي صور الصغار التي كانت تزين الصفحات الداخلية لتلك المجلة، وكنت أتمنى لو أنه في يوم من الايام كانت صورتي وأنا مبتسم على إحدى تلك الصفحات وأكتب عن هوايتي بأنها " المراسلة"، فأبدأ في رسم صورة الكم الكبير الهائل من الرسائل التي تصلني عبر البريد من أصدقاء افتراضيين من كل العالم ومن كل الجنسيات ومن كل الاجناس يكتبون لي عن أنفسهم واسرتهم وأماكن اقامتهم وهواياتهم وأكتب أنا اليهم عن صور خيالية عما كنت أحلم به من حياة غير حقيقية لم تكن قريتي الصغيرة قادرة على توفيرها لي. أذكر أنني كتبت عن نفسي لاهلي في سن متأخرة بعدما خرجت من الجامعة وأكملت تعليما عاليا في دولة متقدمة في مجال البريد، كنت أرسل صوري التي أتباهي بها الى اسرتي وفي الخلف تعليق طريف على ذلك المشهد، كنت أستمتع بوضع تلك الصور في مظروف والذهاب الى مكتب البريد في الجهة المقابلة لمكان الاقامة، ولم يكن الرد ليأتي برسائل كالتي أرسلها ...

زوايا منفرجة

سأستعير مصطلح الزاوية المنفرجة والتي يعرفها علماء الحساب والرياضيات بأنها الزاوية التي يكون قياسها أكبر من تسعين درجة أي أنها زاوية ليست بالمستقيمة ولا بالمعتدلة فهي قد أعطت لنفسها الحق في التوسع والامتداد مخالفة للقاعدة الرياضية والطبيعية التي تقول أن كل شيىء يجب أن يكون مستقيما لا يحيد عن سنن وقوانين الطبيعة، وبعيدا عن هذه المقدمة الرياضية فإن مقالي هذا يتحدث عن جانب اداري بحت يتعلق برغبة بعض مؤسسات الدولة في التوسع في اختصاصاتها على حساب اختصاصات مؤسسات أخرى لها كياناتها القانونية والتشريعية والمؤسسية، وهو ما يسمى في عرف الاداريين بالتداخل في الاختصاصات بين الجهات المختلفة. لدينا عديد من الامثلة على حصول ذلك التداخل تبدأ من قلب كيانات الدولة ذاتها حيث تتداخل اختصاصات دوائرها وأقسامها المختلفة فتبدأ في التنازع والتخاصم والتشاكي والتباكي على ما كان يوما من الايام من اختصاص أساسي بنص القانون والدستور من صميم عمل قسم أو دائرة ليذهب بجرة قلم الى مكان آخر ربما عن قناعة من صاحب القلم بأن صلاحية ذلك الآخر شارفت على الانتهاء مما كان يشرف عليه وحان الوقت لطباعة تاريخ صلاحية ج...

الأشجار تموت واقفة

تروي لنا الحكايات انه في جزر سليمان الواقعة في جنوب المحيط الهادي أنهم اذا أرادوا اقتطاع شجرة فان القبيلة تجتمع من حولها وتاخذ في لعنها وبعد ايام تموت الشجرة. هكذا وردت هذه العبارة على لسان الممثل الهندي عامر خان في فيلمه " الطفل المميز" أو بالهندية ان أصبت نطقه فهو " تاري زامن بار" Taare Zamen Par . ويتحدث الفيلم عن طفل صغير لديه صعوبات في التعلم ولا يستطيع تمييز الحروف من بعضها وليست لديه المقدرة على الفهم كباقي زملائه وأقرانه مما جلب عليه سوء معاملة من والده أولا ومن معلميه ثانيا، غير أن مدرسا للفنون كان قد اصيب بمثل هذا المرض من قبل شخص حالة هذا الطفل وبدأ في علاجه واقناع الجميع بأنه طفل مبدع مبتكر لا سيما في الرسم. حالة هذا الطفل وغيره من الاطفال تشخص اليوم على أنها نوع من مرض التوحد وتتمثل أعراضها في الانعزالية وعدم التواصل مع الاخرين واضطرابات في النوم والاكل والشرب وغيرها من الاعراض، وقد يصاب المرء بالعجب عندما يقرأ بأن عددا من المخترعين والمفكرين والادباء والفنانين التشكيلييين العالميين كانوا مصابين بهذا المرض من أمثال موتسارت وبيتهوفن ومايكل أنغل...